[center]نكبة اسرائيل القادمة
عندما تأتي اربعون شخصية عالمية علي رأسها الرئيس الامريكي جورج بوش لحضور احتفالات دولة بالذكري الستين لقيامها، فهذا يعني ان هناك شيئا غير طبيعي، وان خللا ما في هذه الدولة، يحتم وجود مثل هذا الحشد الضخم لاصلاحه او اخفائه.
اسرائيل وبعد ستين عاما علي قيامها علي حساب شعب كامل جري تشريده وقتل عشرات الآلاف من ابنائه، ما زالت تشعر بالخوف والقلق وعدم الامان، ووجود هذا الحشد الضخم من الشخصيات العالمية جاء من اجل طمأنه شعبها، واظهار الدعم له.
صحيح انها حققت طفرة اقتصادية ضخمة، جعلت متوسط الدخل الفردي السنوي يزيد عن 21 الف دولار، وصحيح ايضا انها تملك اكثر من ثلاثمائة رأس نووي، وجيش قوي، ولكن الصحيح ايضا انها ما زالت دولة محاطة بالاعداء، وعجزت كليا عن تحقيق الامن لمستوطنيها، وتبحث دون كلل عن اعتراف الضحية بها.
الآباء المؤسسون لدولة اسرائيل ارادوها ان تصبح ملاذا آمنا لليهود في كل اصقاع المعمورة، ونقطة جذب لهم، ولهذا جعلوا حدودها مفتوحة، لاستيعاب هؤلاء جميعا، ولكن، وبعد ستين عاما بدأ هذا الحلم يتصدع، وفضل معظم اليهود البقاء خارجها، ومن هاجر اليها منهم اصبح ينقب في اوراق اجداده لاستعادة جنسيته، استعدادا للهروب في هجرة معاكسة اصبحت منظورة بشكل لافت في دول مثل كندا وامريكا واستراليا واوروبا.
لا نعرف ما اذا كان الرئيس جورج بوش يدرك ان الارض التي يقف عليها هي ملك لأسر فلسطينية تعيش في مخيمات للاجئين في لبنان او سورية او حتي الضفة والقطاع، وان الدولة التي جاء للاحتفال بقيامها مارست التطهير العرقي في ابشع صوره، وازالت 351 قرية من الخريطة تماما، وهجرت اهلها بارهاب المجازر والتهديد والوعيد.
فعليه ان يتذكر، وهو يشيد في خطابه الذي سيلقيه اليوم بالمعجزة الاسرائيلية، وانجازات الدولة المحتفي بها وآبائها المؤسسين، ان هذه المعجزة قامت علي اشلاء الاطفال الذين دفعوا، وما زالوا يدفعون ثمن الاضطهاد الاوروبي لليهود، فالهولوكوست اليهودي تحول الي نكبة للشعب الفلسطيني والامة العربية.
رغم المجازر الاسرائيلية المتواصلة طوال الستين عاما الماضية ما زال ابناء الشعب الفلسطيني صامدين ومتمسكين بهويتهم الوطنية والقومية، ويتساوي في ذلك انطونيو سقا رئيس السلفادور مع اصغر طفل فلسطيني في مخيمات اللجوء داخل فلسطين وخارجها.
خمسة ملايين فلسطيني ما زالوا يعيشون داخل حدود فلسطين التاريخية، مليون ونصف المليون منهم تقريبا داخل اسرائيل، ومثلهم في المنافي العربية والاجنبية، القاسم المشترك بينهم جميعا هو التمسك بالثوابت، وعدم التنازل عن اي منها، والتمسك بحق العودة، وزرع هذا الحق في عقول الاجيال الجديدة.
الرهان الاسرائيلي الاكبر كان علي محو الذاكرة الفلسطينية، وتثبيط همم الفلسطينيين، واجبارهم علي قبولها كأمر واقع، والتعاطي معها كدولة اصيلة في المنطقة، ولكن ما حدث هو العكس تماما، فبعد ستين عاما ما زال ابناء الجالية الفلسطينية في تشيلي في اقصي بقاع المعمورة يعلقون خارطة فلسطين في بيوتهم، واعلامها علي صواريها، ويتدافع النابغون منهم لتمثيلها في المحافل الدولية، واللعب ضمن منتخبها الدولي لكرة القدم.
الفلسطينيون بدأوا يتجاوزون نكبتهم، ويحاولون الخروج منها منذ ان بدأوا مسيرتهم الجهادية دون كلل او ملل، ولكن نكبة الاسرائيليين المقبلة قد تكون اكبر، فما زالوا يبنون الجدران العازلة، ويقيمون الحواجز، في زمن انهارت فيه الاسوار العنصرية بعد ان فشلت في حماية من يقبعون خلفها مرعوبين. اسرائيل تحولت الي غيتو عنصري كبير بل الاكبر في العالم بأسره لم يعرف التاريخ مثله.
لم اسمع فلسطينيا واحدا يقول انه مستعد للتنازل عن حق العودة، او القبول بتعويض مالي، باستثناء موقعي وثيقة جنيف سيئة الذكر، بل سمعت فلسطينيين، وانا منهم، يطالبون بالعودة والتعويض الكامل عن كل نقطة ماء، وحبة قمح، وسمكة استفاد منها الاسرائيليون طوال الستين عاما الماضية من اغتصاب ارضهم.
سمعت وشاهدت كيف رفض اهالي مخيم جنين مشاريع وكالة الاونروا لإعادة بناء مخيمهم علي ارض مجاورة، واصروا علي ان يعودوا الي مخيمهم نفسه، في مكانه، ومثلما كان عليه، وقرأت ان اهالي مخيم نهر البارد في شمال لبنان يرفضون عرضا مماثلا باعادة بناء مخيمهم المدمر في مكان قريب، فاذا كان هؤلاء يتمسكون بالمخيم رغم ازقته الضيقة وظروف المعيشة الصعبة، فكيف يمكن ان يتنازلوا عن حقهم في العودة الي يافا وعكا وصفد والرملة واللد والقدس وبئر السبع وعسقلان والمالحة ومئات القري الاخري؟
من اغرب ما شاهدت ان ابناء القري الفلسطينية المدمرة الذين يعيشون في مخيمات اللجوء ما زالوا يتحدثون بلكنتهم الاصلية، وينقلونها الي ابنائهم وكأنهم غادروها بالامس، وترتدي نساؤهم الاثواب التقليدية نفسها في الافراح والمناسبات. فكيف سينسي هؤلاء فلسطين، وكيف ستنجح اسرائيل في محو ذاكرتهم بمجازرها وارهابها؟
ربما تنجح اسرائيل في محو ذاكرة بعض الزعماء العرب، وتستخدم العصا الامريكية لدفعهم الي توقيع اتفاقات سلام معها، ولكنها ستفشل قطعا مع الشعوب العربية مثلما فشلت مع الشعب الفلسطيني. فالسلام مع الانظمة لا يمكن ان يحقق الامن والتطبيع، فالغالبية الساحقة من العرب ما زالت تعتبر اسرائيل عدوة مغتصبة لا بد من مقاومتها.
فليرسل الرئيس حسني مبارك برقية تهنئة الي شمعون بيريز بمناسبة اغتصاب فلسطين، بل ولن نستغرب اذا ما شارك بنفسه او عبر مندوب عنه في هذه الاحتفالات، ولكن الشعب المصري العظيم الذي قدم، وما زال مستعدا لتقديم آلاف الشهداء من خيرة ابنائه لنصرة الحق الفلسطيني، لن يفعل ذلك، ولن يقبل بأن تهان مشاعره وقيمه بهذه الطريقة.
اسرائيل اصبحت عبئا كبيرا علي اصدقائها في الغرب، فكل الخسائر التي تلحق حاليا بالغرب، وما تبقي من اخلاقياته ومبادئه، هي بسبب الدعم لها، وخوض الحروب من اجل تأمين سلامتها، والحفاظ علي استمراريتها.
الادارة الامريكية الحالية خسرت حتي الآن حوالي اربعة آلاف قتيل وثلاثين الف جريح، وثمانمئة مليار دولار، مرشحة ان ترتفع الي خمسة آلاف مليار، في حربيها في العراق وافغانستان بسبب اسرائيل، وتحريض انصارها من يهود المحافظين الجدد، ومن المتوقع ان تصبح الخسائر اكبر في حال شن حرب جديدة ضد ايران استجابة للضغوط الاسرائيلية.
الخطر الاسرائيلي لم يعد محصورا في فلسطين وانما بدأ يهدد المنطقة بأسرها، فالمخطط الحالي لتفتيت المنطقة، واشعال فتيل الفتن الطائفية فيها، هو مخطط اسرائيلي بالاساس بدأ في العراق ويتمدد حاليا الي لبنان، ولن نستغرب اذا ما انتقل الي سورية والمملكة العربية السعودية ومصر في القريب العاجل. ألم يتبن هذا المخطط، ويروج له المفكر اليهودي البريطاني برنارد لويس عندما قال ان العراق دولة مصطنعة يجب تفكيكها، معطيا الضوء الاخضر، والتوطئة الفكرية والتاريخية لتفكيك العراق؟
النكبة كانت ستكون اعظم لو ان الفلسطينيين تخلوا عن المقاومة، ورفعوا رايات الاستسلام، او لو ان الانظمة العربية المستسلمة فرضت استسلامها علي شعوبها. ولكن الفلسطينيين لم يستسلموا، ومن استسلم منهم في اوسلو تعرض للنبذ والعزلة، فالمقاومة، وبعد ستين عاما، اصبحت اصلب عودا، واكثر فاعلية.
الخط البياني للوجود الاسرائيلي في فلسطين بدأ مرحلة التراجع الي اسفل، وهزيمة الجيش الاسرائيلي المهينة في جنوب لبنان قبل عامين نسفت الحلم الصهيوني من جذوره، وربما يصل هذا المؤشر الي الدرك الاسفل اذا ما اندلعت الحرب، وقررت اسرائيل الانتقام من هزيمتها في لبنان.
من المفارقة ان المقاومة التي تنتصر حاليا في المواجهات مع اسرائيل وجيشها، هي تلك غير المدعومة من انظمة الفساد العربي، فالتحول الاساسي بدأ عندما استسلمت الانظمة، وجاء البديل من رحم الامة، ومن قبل مجموعات كل طموحها، واعلي امانيها، الشهادة، وهنا تكمن نكبة اسرائيل الحقيقية.
[b]